بقلم الدكتور حامد بن عبدالله البلوشي
مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية
لا شك أن التسامحَ قيمةٌ ساميةٌ تتجاوزُ الحدودَ البشريةَ، وتمدُّ جسورَ المحبةِ والتعايشِ بينَ الأممِ. ففي كل عامٍ؛ يحتفلُ العالمُ في السادس عشر من نوفمبر بـ”اليوم العالمي للتسامح”، وهو دعوةٌ عالميةٌ لتعزيزِ روح التسامحِ والسلامِ بينَ الشعوبِ. وبينما يحتفي العالمُ بهذه الفضيلةِ، ويعلي من قيمتها، ويهتم بأثرها، ويبحث عن كل وسيلة ممكنة لنشرها، نرى الإسلامَ قد سبقَ جميعَ الحضاراتِ في تأصيلِ هذه القيمةِ العظيمةِ، وتفوّق على جميع الأمم في تثبيتِ تلك الفضيلةِ، وتهذيبِ النفوسِ بها، ورفعِ شأنِها بينَ البشر. من خلال تعاليمهِ المقدسة، وسيرةِ نبيِّه العطرة صلى الله عليه وسلم.
والإسلام دينُ التسامحِ والعدلِ، وشريعته شريعة العفو والقسط، وأوامره تدعو إلى الصفح والإنصاف، ودعوتهُ إلى التسامحِ تتجلى في العديدِ من الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ. فقد أمرَ اللهُ بالعفوِ في قوله: “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”.
وعبر صفحات التاريخ الطويلة، ارتسمت صورة سلطنة عُمان كأرضٍ تزدهر فيها معاني التعايش السلمي والتسامح بين مختلف الشعوب والثقافات. فقد كانت عُمان دائمًا رمزًا للمحبة والاحترام المتبادل، وموطنًا يجمع تحت سمائه الجميع، بغض النظر عن خلفياتهم، أو معتقداتهم. هذا التميز لم يكن محض صدفة، بل هو ثمرة سياسة حكيمة، ورؤية نيرة، اتبعها جلالة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله. تلك الرؤية التي جعلت من عُمان ملاذًا لكل من يسعى للسلام والاستقرار. لقد كانت قيادة جلالته -طيب الله ثراه- نموذجًا يحتذى به في نشر قيم التسامح، وبناء جسور التواصل بين الأمم، مما أكسب السلطنة احترامًا عالميًّا كبيرًا، ومكانة دولية مرموقة، ومنزلة بين الدول تستحقها عن جدارة.
ومن بين المبادرات الرائدة التي أطلقتها السلطنة لتعزيز هذه القيم؛ كان “مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني”، وهو جهد بارز يعكس التزام السلطنة العميق بنشر ثقافة الحوار والسلام بين الأمم. حيث كان هذا المشروع بمثابة دعوة مفتوحة للتقارب بين الأديان والحضارات، ولم يكن مجرد فكرة، بل كان تطبيقًا عمليًّا لتوجيهات جلالته رحمه الله. من خلاله، فتحت عُمان قنواتٍ للتفاهم والتواصل بين الشعوب، مؤكدة على أهمية الحوار كوسيلة لتعزيز التعاون العالمي والعيش بسلام. وهكذا، استمرت عُمان في أداء دورها كمنارة للتسامح، وأصبحت نموذجًا حيًّا يُستشهد به في كل المحافل التي تدعو إلى التعايش السلمي بين البشر.
واستكمالًا لهذه النجاحات المتوالية، ومع تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم؛ استمرت سلطنة عُمان في تعزيز قيم التسامح والاعتدال، حيث حمل جلالته -أبقاه الله- لواء نشر هذه القيم في الداخل والخارج، مُتبنيًا نهجًا قويمًا يعزز الانفتاح على العالم، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للسلطنة. وقد أكد قائد البلاد المفدى في خطابه الأول على مواصلة السلطنة لدورها الريادي في نشر ثقافة الحوار والسلام، حيث قال:
“لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، كيانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عُمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، تقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري، وأمانتنا التاريخية”.
وهذا الخطاب الذي يعكس بوضوح رؤية جلالته -حفظه الله ورعاه- لسياسة عُمان الخارجية والداخلية المبنية على التسامح والعدالة.
والناظر بعين فاحصة، ونظرة متأملة؛ يجد أن التسامح في سلطنتنا الغالية ليسَ مجردَ شعارٍ، بل هو جزءٌ من نسيجِ المجتمعِ العُمانيِّ الذي تربَّى على قيمِ التعايشِ وحسنِ الجوارِ. فمنذُ القدمِ؛ احتضنتْ عُمان مختلفَ الأعراقِ والأديانِ، وكانَ العُمانيونَ دائمًا مثالًا يُحتذى به في التسامحِ، سواءٌ في تعاملاتِهم اليوميةِ، أو من خلالِ التفاعلِ مع الزوارِ والمقيمينَ. هذا التسامحُ انعكسَ في التلاحمِ الاجتماعيِّ، والتعاونِ بينَ أفرادِ المجتمعِ في جميعِ المناسباتِ.
ولا تقتصرُ أهميةُ التسامحِ على الدينِ أو الثقافةِ فحسب، بل هو مبدأٌ عالميٌّ أكدتْه الأممُ المتحدةُ في ميثاقِها. فقد وردَ في مقدمةِ الميثاقِ: “أن نعيشَ جميعًا معًا في سلامٍ وحسنِ جوارٍ”. هذا التوجهُ العالميُّ يعكسُ الالتزامَ الدوليَّ بضرورةِ تعزيزِ التسامحِ كأداةٍ للسلامِ العالميِّ. كما أنَّ القوانينَ الدوليةَ تسعى إلى ضمانِ حقوقِ الإنسانِ، وتعزيزِ المساواةِ والعدلِ بينَ الشعوبِ، مما يُسهمُ في إشاعةِ روحِ التسامحِ بينَ الأممِ.
حفظ الله عُمان وشعبها، وجعلها الله وطنًا آمنًا ومستقرًا، تنعم بالأمن والسلام، وتنشر المحبة والوئام بين أبنائها، وكل من يقطن على أرضها، كما كانت عبر تاريخها العريق دائمًا. وأعاننا جميعًا أن نعلي من شأنها، ونرفع من قدرها، مؤكدين أن عُمان ستظل نموذجًا يُحتذى به في التعايش السلمي، والتسامح الديني، ومثالًا رائعًا على الاحترام المتبادل بين الأديان والمذاهب، لترسخ مكانتها كمنارة للسلام في المنطقة والعالم.