عُمان والبيئة.. إرث أصيل ومستقبل مستدام

بقلم الدكتور حامد بن عبدالله البلوشي مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية

في الثامن من يناير من كل عام، تحتفل سلطنة عُمان بيوم البيئة، يوم تتجلى فيه قيم العناية بالطبيعة، وتتكشف فيه الروابط العميقة بين الإنسان والأرض. إنه يوم يحمل بين طياته رسالة مُفعمة بالمسؤولية والأمل، دعوة لاستذكار جمال الطبيعة وأهميتها في حياتنا اليومية، وأهمية صونها للأجيال القادمة. ففي هذا اليوم، يُرفع الستار عن جهود السلطنة في تحقيق التوازن بين التنمية المستدامة؛ والحفاظ على موارد الطبيعة التي حبانا الله بها.

لقد وقع العالم في فخ الجور على الطبيعة، وإساءة الاستخدام، حيث تسببت الأنشطة البشرية غير المسؤولة في إحداث أضرار جسيمة على البيئة. فقطع الغابات، وتلويث البحار، وإطلاق الغازات السامة في الهواء؛ كلها دلائل على اختلال العلاقة بين الإنسان والطبيعة. ولعل أبرز نتائج هذا التعدي يتمثل في ظاهرة الاحتباس الحراري التي باتت تُهدد الكوكب، وتزيد من وتيرة الكوارث الطبيعية: من أعاصير، وفيضانات، وزلازل، وجفاف.

أمام هذا التحدي، نشطت المنظمات الدولية في إطلاق المبادرات الهادفة إلى حماية البيئة. فالأمم المتحدة، عبر برامجها البيئية، وضعت خططًا وإستراتيجيات تسعى إلى الحد من التلوث، وحماية التنوع البيولوجي. ومن بين أبرز هذه الجهود “اتفاقية باريس للمناخ”، التي تمثل دعوة دولية لخفض الانبعاثات الحرارية، والتصدي للتغيرات المناخية التي تُهدد مستقبل الأرض.

وسط هذا الحراك العالمي، تبرز سلطنة عُمان كواحدة من الدول الرائدة في مجال الحفاظ على البيئة. فالسلطنة تتمتع بتنوع بيئي وجغرافي فريد يجعلها جنة طبيعية على الأرض. من الجبال الشاهقة إلى الشواطئ الخلابة، ومن الأودية الغناء إلى الصحاري الشاسعة. حيث تُعد المحميات الطبيعية من أجمل المحميات في العالم، ومن أبرز معالم الحفاظ على الحياة البرية، مثل محمية السلاحف في رأس الجنز، ومحمية المها العربي في الجبل الأبيض. هذه المحميات ليست فقط مناطق جذب سياحي، بل هي شواهد حيَّة على جهود السلطنة في الحفاظ على التنوع البيولوجي.

ومنذ عصر النهضة المباركة، وتحديدًا في عهد السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله، تم إرساء نهج مستدام يوازن بين التنمية الاقتصادية، وحماية الموارد الطبيعية، وتم إنشاء وزارة للبيئة والشؤون المناخية -حيث تعتبر السلطنة أول دولة عربية أنشأت وزارة للبيئة- ولم تقتصر جهوده – طيب الله ثراه- على المستوى المحلي فحسب، بل امتدت لتشمل المستوى العالمي، وذلك بإنشاء جائزة السلطان قابوس للبيئة كمبادرة كريمة من جلالته أثناء زيارته إلى مقر اليونسكو في عام 1989م، وتمنح هذه الجائزة للأفراد والمنظمات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تقوم بجهود مُميزة في مجال العمل البيئي، والمحافظة على البيئة على المستوى العالمي.

وها هو جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله وسدد خطاه- يسير على نفس النهج، مُعززًا الجهود بتطوير السياسات البيئية، ودعم المبادرات الخضراء التي تضع البيئة في القلب من إستراتيجيات التنمية الوطنية، والنهضة المتجددة، فقد أكد -حفظه الله ورعاه- على ذلك بقوله: ” إن حماية البيئة والحفاظ على مواردها الطبيعية المختلفة هي من أولويات مضامین الخطط التنموية في سلطنة عُمان؛ وذلك انطلاقاً من القناعة الراسخة لدينا بأنَّ العناية بالبيئة ومقدراتها مسؤولية عالمية لا تحدها الحدود السياسية للدول، وهو ما ينبغي أن يحرص عليه المجتمع الدولي بتوفير كل الإمكانيات المتاحة للحفاظ على النظام البيئي وصون موارده الطبيعية، ووضع خطط عمل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، ونشر الوعي بأهمية المحافظة على توازن البيئة، والاستثمار في مواردها بالقدر الذي يحقق التنمية ويضمن استدامتها للأجيال القادمة.”

إن مسؤولية الحفاظ على البيئة تبدأ من الفرد، الذي يجب أن يعي جيدًا أهمية دوره في الحد من التلوث. فبعض السلوكيات التي تبدو بسيطة مثل: ترشيد استهلاك المياه والطاقة، وتقليل استخدام البلاستيك، وتشجيع إعادة التدوير؛ يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا، وأثرًا ملموسًا. أما على مستوى المؤسسات، فإنَّ تبني سياسات صديقة للبيئة، واستخدام التكنولوجيا النظيفة؛ يمثلان خطوات جوهرية نحو بيئة مستدامة.

في هذا السياق، لا يُمكن أن تتحمل الحكومة وحدها مسؤولية الحفاظ على البيئة؛ بل إن المواطن شريك أساسي في هذه المهمة. ومن خلال المبادرات المجتمعية، مثل تنظيف الشواطئ وزراعة الأشجار، والحد من استخدام المصنوعات البلاستيكية، يمكن للأفراد الإسهام في تحسين البيئة. وعلى الجانب الآخر، تلعب الحكومة دورًا محوريًّا من خلال سن التشريعات البيئية، ودعم الأبحاث العلمية، وتحفيز القطاع الخاص على اعتماد ممارسات تحترم البيئة.

إن يوم البيئة في سلطنة عُمان هو أكثر من مجرد مناسبة؛ إنه رسالة إنسانية تدعونا جميعًا للتأمل في علاقتنا بالطبيعة والعمل على تحسينها. فلنكن أمناء على الأرض، نحميها ونصونها، لتظل شاهدًا على جمال الخلق الإلهي، وأمانة الإنسان في الأرض. فالأرض ليست ملكًا لجيلنا فحسب، بل هي ميراث الأجيال القادمة، وعلينا أن نؤدي الأمانة بحق كي يبقى الجمال نابضًا وشاهدًا على إنسانيتنا ورقي تفكيرنا.

 

تعليقات (0)
إضافة تعليق